ديك البخيل
أقام أُناسٌ عند سهلٍ بن هَارون، المشهور ببخله، فلم يَبْرَحوا حتّى كادوا يموتون من الجوع؛ فلمّا اضطرُّوه قال: يا غلام؟ ويْلَك! غَدِّنا! فأتاهم بقصعةٍ فيها مَرَقٌ، فيه لحم ديكٍ عاسٍ هرِمٍ، ليس قبلها ولا بعدها غيرها، لا تَحِزُّ فيه السّكّين ولا تؤثّر فيه الأضْراس، فنظر في القَصْعة وقلَّب بصَرَه فيها ثمّ أخذ قطعة خبزٍ يابسٍ فقَلَّب جميع ما في القصعة حتّى فَقَدَ الرّاس من الدّيك وحْدَه فبقي مُطرقًا ساعة ثمّ رفع رأسه إلى الغلام فقال: أين الرَّأس؟ ولِمَ رَمَيْتَ به؟ ولأيِّ شيءٍ ظَنَنْتَ أنّي لا آكُلُهُ؟ فواللّه إنّي لأَمْقُتُ مَن يرمي بِرِجليه، فكيف مَن يرمي برأسه! لو لم أكره ما صنَعْت إلّا للطِّيَرَة والفال لكَرهتُهُ: الرَّاس رئيسٌ، وفيه الحواسُّ، ومنه يصيح الدّيك، ولولا صوته ما أُريد ونِيْه مرْقُهُ الّذي يُتَبَرَّك به، وعينُهُ الّتي يُضرَب بها المثل فيُقال: شرابٌ كعين الدّيك ودماغه عجيبٌ لوَجَع الكَلْيَة؛ ولم أرَ عظمًا قطُّ أهشَّ تحت الأسنان، من عظم رأسه، فهلَّا، إذ طنَنْتَ أنّي لا آكله، طَنَنْت أنَّ العيال يأكلونه؟ وإن كان بلغ من نُبْلِك أنّك لا تأكله، فإنّ عندنا مَن يأكله. أو ما عَلِمْت أنّه خيرٌ من طرف الجناح ومن السّاق والعنق! انظر أين هو! قال: واللّه ما أدري أين رَميت به، قال سهلٌ: لكنّي أدري أنّك رميت به في بطنك، واللّه حسيبُك!
مقتبسة عن الجاحظ
(ج 2 آخر كتاب البخلاء)